محمد زيدان
لم تتوحد الحملة الإنتخابية للأحزاب العربية إلا بإجماعها على هدف مشترك يتمثل بمحاربة
المقاطعة وزيادة المشاركة في الانتخابات للكنسيت الاسرائيلي. الأمر الذي بدا
واضحاً في توجيه شعارات هذه الحملة لجمهور الشباب خاصة، والجمهور العربي عامة ، لتجريم
سلوك المقاطعة، أخلاقيا، باعتبارها العقبة الأساسية أمام هذه الاحزاب. وبدا المشهد
(المضحك المبكي) احياناً وكأن هذه المقاطعة هي ما يحول دون تشكيل هذه الأحزاب
للحكومة القادمة، (بعد تحصيل الفوز الكبير) الذي لا يفصلها عنه سوى بعض الأصوات
القليلة التي تحجبها المجموعات المُقاطِعَة !. هذه المقاطعة التي توسعت قاعدتها
الجماهيرية، وفق كل الاحصائيات والتوقعات لتتجاوز ال 50% من "المصوتين العرب"
!!.
وبالطبع فإن فكرة المقاطعة للكنيست
الاسرائيلي، وعدم المشاركة في انتخابه تحمل أبعاداً وطنية عامة تستند لتحليل دورِهِ
كبرلمانٍ للدولة اليهودية - ثمرة الصهيونية – التي يُجمِعُ الجميعُ (بما في ذلك
المشاركون) على عنصريتها ودمويتها في التعامل مع فلسطين أرضاً وشعباً وقضيَّة...
ولكن المثير هو بعض الشعارات التي ترافق هذه الحملة الإنتخابية لدى كافة الأحزاب
العربية -بتفاوت معين بينها، والتي تتلاعب بالحقائق والأفكار والمواقف، في حملةٍ
تعتبرها بعض الأحزاب "أم المعارك" والحدّ الفاصل بين مبرر وجودها
ونشاطها كحزبٍ فاعل!!.
إن مقولة "المقاطعة ستترك الساحة لليمين الفاشي" أو "أن المقاطعة تخدم
اليمين المتطرف، وتخدم رغبته بمنع العرب
من التصويت والأحزاب العربية من المشاركة"، وغيرها من المقولات التي نحتاج
للتوقف عندها والنظر في عيون مطلقيها (خاصة الاحزاب الوطنية منها) باعتبارها تحتاج
للكثير من الخجل، والقليل من احترام عقول الناس، كي يتم الكشف سريعاً عن زيف جوهرها
وخطئه .. لأن المنطق الذي تستند إليه من شأنه أن يُشرِّع استنتاجاً عكسياً بصورة
تلقائية، اي "أن المشاركة والتصويت ستؤدي لفتح الساحة أمام اليسار، وأنها (اي
المشاركة) تخدم اليسار الاسرائيلي (الذي وصل حد الكتابة باللغة العربية في أعرق
الصحف العبرية "محذّرا من المقاطعة، وداعياً "المواطنين العرب بالتعالي
عن خيبة أملهم، وللخروج بكل قوة للتصويت
بكثافة من أجل "الديمقراطية والسلام والمساواة" على حد تعبير الصحيفة!!!).
وهو منطق انتهازي يكشف حقيقة هذه المقولة التي تعتبر الأحزاب العربية جزءاً من
"اليسار الاسرائيلي" في الكنيست .. وهو الأمر الذي من حقنا على بعض
الأحزاب التي تحمل برامج وطنية أن توضحة لنا، في الإنتخابات، قبلها وبعدها بنفس
المقدار: هل يرى الأعضاء العرب بالكنيست أنفسهم جزءاً من اليسار الاسرائيلي؟، وما
هي طبيعة العلاقة بين "الحركة الوطنية" وهذا المسمى يساراً اسرائيلياً!!..
هل نحن وفق هذا التوصيف نلعب دور "مخزون الأصوات الإحتياطي" لهذا اليسار،
نطلقة ونستعملة من خلال الأحزاب العربية المشاركة؟؟! .. هل تعيد هذه الشعارات
تأكيد مقولة الحملة "خلي الصوت يقرر" التي اطلقتها بعض الجمعيات
(بقيادات سياسية حزبية وتمويل امريكي!)، من أجل رفع نسبة التصويت العربية دعماً
لانتخاب إيهود براك لرئاسة الحكومة عام
2008؟ نعم براك وزير حرب اسرائيل!!.. وكل ذلك خوفاً من نجاح "غول اليمين
المتطرف" (باعتبار براك يسارياً مقارنة باليمين "المتطرف" وفق هذا
الفهم!!). فهل تعرف الأحزاب العربية أنها تعود بشعاراتها هذه لترسخ هذا الفهم في
عقول شبابنا، باعتبارنا "احتياطاً" لهذا اليسار المزعوم!، أو من خلال
التهويل من خطر هذا اليمين الفاشي!؟.
للمرة الألف يجب ان نقول: نحن بالمقاطعة "لا
نتركها" لليمين، بل بالمقاطعة نزرع بذور بدائل النضال من أجل حقوقنا وكرامتنا
الفردية والجماعية. وأن تطور مكانة العرب الفلسطينيين في البلاد، لا يعتمد على الكنيست
ومدى التمثيل العربي فيها. بل على بناء المؤسسات الوطنية والتمثيلية وتوجيه القدرات
الشبابية – داخل الأحزاب وخارجها - نحو العمل الوطني الأصيل وتعزيز هويته والإنتماء
لشعبه، والمشاركة بالعمل التطوعي لبناء المجتمع والوطن دون اعتبارات مصلحية
وحسابات حزبية ضيقة.
ان مقولة "ترك الكنيست للأحزاب اليمينية
المتطرفة" لا تعني بالنسبة للمقاطعين "خراب مالطة"، وهي بكل
الأحوال مقولة تتسم بقصر النظر والرؤية، كونها تعزف على وتر تخويف الجمهور من فكرة
المقاطعة ونتائجها. فالحقيقة أن التواجد العربي بالكنيست والتصويت لأكثر من 63 عاماً
(وبنسبٍ فاقت مشاركة اليهود – أصحاب الشأن الأول ببرلمانهم!)، لم تساهم في لجم
العنصرية وسياسة التمييز التي تتزايد ويتغير لونها دون أن يتغير جوهرها. لأن
العنصرية ليست أمراً طارئاً، بل هي نتاج لجوهر "الدولة اليهودية"، التي
نتفق (مقاطعين ومصوتين) على أنها لم تَقُم من أجل نشر قيم "الديمقراطية
والسلام والمساواة"، أو السماح ببناء "الحركة الوطنية في الداخل" -
كما الخارج!. بل كمشروع اكتشف العالم-مثلنا، عنصريتة، وأجمع على وحشيته بالتعامل
مع الفلسطينيين أينما كانوا!!، وذلك ببساطة ووضوحٍ كبير لكون العنصرية مركب أساسي
في الفكر الصهيوني المؤسِّسِ لهذه الدولة، والفكر المُوَجِه لمؤسساتها (وبضمنها
التشريعية – الكنيست). اذاً فإن التغيير الجذري بمكافحة العنصرية لن يكون نتيجةً للمشاركة
العربية، أو تحصيلاً لزيادة عضوٍ، أو حتى عشرة من الأعضاء العرب، أو مساعدة "اليساريين
اليهود" للإنتصار في هذه المؤسسات !!.
إن ما نشاهده من زيادة تمثيل حركات
"التطرف الصهيوني" في الكنيست الاسرائيلي، هو بمثابة تحشيد وتجسيد للفكر
الصهيوني السائد في برلمان الدولة اليهودية قبل هذه الاحزاب ولن يتغير بوجودها ،
لأن ما يحمله "نفتالي بينيت" من افكار وعنصرية لا يختلف كثيرا، ولا يزيد
فاشيةً عمّا يحمله ليبرمان ونتنياهو أو عنصريةً عن براك وبيرس ... والتاريخ الذي
يحمل توثيق تطبيقات هذه الأفكار على يد الآباء المؤسسين للصهيونية ودولة اسرائيل،
على شكل النكبة التي نفذتها الحركة الصهيونية بقيادة "اليسارالعمالي" وعصابات
"اليمين المتطرف" حينها، هي ذاتها القاعدة الفكرية التي قادت حزب العمل
لصناعة كل الحروب وتنفيذ الإحتلال لاحقاً، وقادت اليمين لتشريع قوانين عنصرية حظيت
ب"الإغلبية الصهيونية المطلوبة" لتصير فاعلةً!!. ودعونا نتفق أن النكبة
والتهجير لا يمكن قياسها بتصريحات تينت أو ليبرمان وكل القادمين الجدد على ساحة
الكنيست الإسرائيلي، التي صارت بحضورهم، أكثر من أي وقت مضى مرآةً وصورةً حقيقية
للواقع الإسرائيلي المشبع بالعنصرية والتطرف. ولأننا نحن ابناء الشعب الذي نهض من
نكبة صنعها بن غوريون، وصمد تكسير العظام زمن رابين وتجاوز عنصرية شارون وجرائمه،
لا يمكن تخويفنا بتصريحات لتينت او قوانين نتنياهو وحتى هرطقات انستازيا العنصرية!!.
وتحاول الأحزاب ضمن حملتها ضرب فكرة المقاطعة
على المستوى الأخلاقي، من خلال وصمها "بالكسل والتقاعس"، وذلك من أجل
وضعها بالنقيض مع "النضال والمثابرة" التي تتسم بها عملية التصويت
والمشاركة وفق هذا الطرح المشوَّه!!. ولأن هذه المقولة لا تصمد أمام حقيقة واضحة
مفادها، وفق كل التوقعات والإستطلاعات، أن أكثر من 50% من الفلسطينيين بالبلاد
سيقاطعون !!... نعم أكثر من 50% لن يشاركوا بالانتخابات الإسرائيلية، وهي فئة تمثل
الغالبية المطلقة، وتحمل صوتاً وموقفاً أقوى من كل الأحزاب المشاركة مجتمعة (طبعاً
هذا بالرغم من عمليات الشطب التي تتم في الساعات المتأخرة لرفع نسبة التصويت
زوراً!!). وما محاولة تقسيم هذه النسبة الكبيرة لمقاطعة "مبدئية" وأخرى "غير
مبدئية" أو "غير مبالية"، الا محاولة لتطمين الأحزاب لنفسها أمام
هذا المدّ الآخذ بالتوسع رغم المقولات السابقة الذّكر وغيرها. وهي تقسيمات لا يمكن
اثبات صحتها، تماماً كما لا يمكن لنشطاء الأحزاب أن يقنعونا بأن التصويت والمصوتين
لأحزابهم يقوم 100% على "قناعات ومباديء" ، بعيداً عن المعايير والشوائب
الطائفية والجغرافية والمصلحية، التي ترافق تشكيل القوائم الإنتخابية لهذه
الاحزاب!!.
إذا فإن المقاطعة هي موقف شرعي صحيح، بغض
النظر عن كونها مبدئية وقيمية، أو لكونها موقفاً احتجاجياً على أداء الأحزاب
العربية ذاتها، او كانت رداً على عنصرية الكنيست والشارع الاسرائيلي، أو استنتاجاً
طبيعاً فطرياً للجمهور الواسع باستحالة التغيير من خلال المشاركة في الكنيست الاسرائيلي. هي مقاطعةٌ تحمل مقولةً
سياسيةً سيكون لها الدور الأهم كأحد الروافد لصياغة المستقبل السياسي لجماهيرنا
بالداخل، لرسم العلاقة بين أصحاب الأرض الأصليين والدولة التي قامت على نكبتهم
وتشريد شعبهم. وتحمل المقاطعة مقولة سياسية، تربوية وتحشيدية أصيلة – لنا
ولمجتمعنا بالدرجة الأولى - كما هي رسالة وموقف صارخ بوجه "اليمين واليسار"
الإسرائيلي: "لسنا في جيب أحد" ! " لسنا يساراً إسرائيلياً ولا
نشكل الإحتياط له بمواجهة "اليمين الاسرائيلي!"، "نحن جزء من شعب
وأمة، وعلاقتنا بالأرض والمكان هي أساس علاقتنا "بالدولة والأكثرية"،
علاقة تقوم على كوننا اصحاب الأرض الأصليين. وأن لعبة "الديمقراطية الإسرائيلية"
وقواعدها العنصرية باتت مفضوحة ولم تعد تنطلي علينا، وبالتالي فإننا نرفض
الإستمرار باللعب بموجبها. وأننا لن نشارك بهذه اللعبة كورقة توت تغطي عارها
المتأصل في جوهرها العنصري!!". إن
الديمقراطية التي يتغنى بها نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي - باللغة الانجليزية،
هي ذاتها الديمقراطية التي تَتَرَحَّم صحيفة هآرتس العبرية عليها – وباللغة
العربية!، وهي ذاتها اللعبة التي تأسست عليها الممارسات والقوانين والسياسات العنصرية
حدَّ الأبرتهايد منذ عام 48، ولم تزل تحركها الى اليوم، لتحمل مشروعها القائم على
نكبة شعبنا!!. هذه هي رسالة المقاطعة، وهذا هو مشروعها الوطني الذي تخشاه الأحزاب
العربية، لكونه يخترق سقوف برامجها السياسية ويطرح افقاً تعلوها، تماماً كما تخشاه
إسرائيل لكشفة عن عوراتها وجوهر عنصريتها المتأصلة في كينونتها المتخفية
"بالعملية الديمقراطية" الشكلية.
وبالطبع لا يمكن نقاش الكثير من المقولات
التي تحارب بها الأحزاب فكرة المقاطعة، ولكن لا بد من التطرق لبعضها ولو بعجالة تحتاج
مقالات أخرى للتفصيل: مقولة "سنقاطع الانتخابات اذا منع عضو الكنيست الفلاني
من المشاركة"! ، يعني حرفياً أنّ انتهاك "حق" عضو من المشاركة، يشرِّع
المقاطعة الجماعية والدعوة لها!! وأن "السماح" لهذا العضو بالترشيح يجعل
المقاطعة من المحرمات!!. وقد يسأل البعض: ماذا مع جرائم إسرائيل وحروبها
وممارساتها وعنصريتها، اليست أهم من مشاركة هذا العضو او ذاك؟؟ (مع الاحترام
للجميع). اليست هناك مواضيع وممارسات اسرائيلية أخرى اشد من هذا الانتهاك وتستوجب منا
معاقبة "الديمقراطية الإسرائيلية" عليها، أو بسببها يصير مشرّعاً لنا ان
نقاطع؟!. ومقولة التصويت "لدعم الحزب الفلاني دعماً للمرأة" ومشاركتها
السياسية، وبالرغم من كون دعم مشاركة المرأة أمراً هاماً وأساسيا بالتغيير المطلوب
في مجتمعنا، يبقى السؤال دعم مشاركتها بماذا؟، ولماذا الكنيست بالذات هو مقياس نسوية
هذا الحزب أو ذاك؟، أليس من الاولى لنا ان نحاسب تلك الاحزاب التي (رغم قراراتها
الرسمية وتصريحاتها الإعلامية) لم تجد من المناسب إشراك امرأة مندوبة عنها في "لجنة
المتابعة العليا" أو تنتخب امراة لعضوية او رئاسة مجلس محلي!!؟؟،او تكون برأس
اي من الاحزاب المشاركة؟؟ ولماذا يجب ان نقبل بالأمر ونساهم بهذا الغبن والاستغلال
والانتقائية بتمثيل قضايا المرأة في مجتمعنا!!.
ولذلك كله ولأسباب غيرها كثيرة لا يمكن عرضها
بمقالة واحدة، فإن مقاطعة انتخابات الكنيست الاسرائيلي، هو موقف شرعي وأصيل.
والمقاطعة هي مشاركة شرعية ومميزة، مشاركة خارج حدود "اللعبة الإسرائيلية
المسماة بالديمقراطية زوراً، وهي موقف لكل من يحمل أملاً بتغيير جذري في ممارستنا
وقناعاتنا السياسية، أمل بأن تضع احزابنا الوطنية مجمل طاقاتها، بشكل جدي في بناء
مؤسساتنا الوطنية والتمثيلية الجماعية. وأن تساهم بصياغة علاقتنا مع محيطنا على أسس
وطنية جماعية بعيداً عن "الردح الانتخابي المتبادل"، من أجل مواجهة
التحديات بعيداً عن صناعة الوهم القائم على امكانية إحداث التغيير الجذري
بمكانتنا، وأمل مكافحة العنصرية الإسرائيلية من خلال الكنيست الإسرائيلي - المشرِّع
لهذه العنصرية. ولتكن المقاطعة الجماهيرية الواسعة بمثابة "القرع على جدار
الخزان"، كي توقظ بصخيبها الأحزاب، وكل المؤسسات الفاعلة من أجل العمل على
تطوير وسائل النضال، ووضع البدائل خارج الإطار الذي تتيحه إسرائيل حفاظاً على
صورتها، ومنعاً لتحررنا الفعلي افراداً وجماعة.