الانتخابات الاسرائيلية :
استرجاع السياق الاستعماري وقراءة أولية في النتائج !
محمد زيدان
وفق منظومة "حقوق الانسان العالمية"
(الليبرالية الحديثة) يعتبر "الحق بالتصويت" واحداً من أهم حقوق
الانسان، ليس باعتباره شكلاً من اشكال حرية التعبير فحسب، بل أيضا لما له من تأثير
بالغ على عملية التشريع التي تحدد التمتع بباقي الحقوق المدنية السياسية
والاقتصادية والاجتماعية، الفردية والجماعية، وباعتباره تجسيداً "لإرادة
الشعب" ورغبته. وبدون الخوض في الجوانب الفلسفية لتحقيق هذا الحق فعلياً، فإن
من شأن العملية الانتخابية في واقع محدد ان تختلف من مكان لآخر، او في المكان
ذاته، بين فترات زمنية مختلفة، بفعل اختلاف الواقع السياسي الذي تمر به الاحزاب
السياسية المشاركة والواقع القانوني الذي يضبط مشاركة "المواطن" في هذه
العملية.
الانتخابات من أزمة الحكم لازمة النظام:
وفي الواقع الاسرائيلي فإن مراجعة جولة
انتخابية بمفردها، تكون مجزوءة اذا ما نزعت عن سياقها السياسي العام، خاصة وانها
تجري للمرة الرابعة خلال عامين في دولة أقامت نظامها السياسي داخل كيان استعماري
استيطاني، نجح بتأسيس نظامه ودولته على أنقاض الشعب الفلسطيني، في واحدة من أبشع
عمليات التطهير العرقي المتواصلة منذ عام 1948 بأشكال ينطبق على غالبيتها معايير
تعريف "جرائم العدوان" "وجرائم الحرب والإحلال" في القانون
الدولي. وأن هذا النظام قد منح ما تبقى من السكان الأصليين- بعد تهجير غالبتهم- منحهم
حق التصويت المشروط، عبر مواطنة منقوصة فرضت عليه بفعل تحويلهم القسري لأقلية في
وطنهم.
ولقد وصل المشروع الاستيطاني الكولونيالي الصهيوني،
المتمثل بدولة اسرائيل اليوم، مرحلة استطاع فيها التمدد على كل الارض الفلسطينية،
ونجح بمراكمة الانجازات الداخلية والخارجية، حتى وصل مرحلة تبلورت التيارات
السياسية الفاعلة في سياقه السياسي لتيارين يمثلان الطّيف الاجتماعي والفكري السياسي
المتنوع داخله. وبرز التنافس بين هذان التياران بالجولات الانتخابية الأربعة الأخيرة،
دون أن ينجح أي منهما بحسم المنافسة لصالحة بشكل مطلق.
يشترك التياران في الهدف والرؤيا النهائية،
فيما يختلفان بالأساليب ورؤية المراحل المطلوبة من اجل الحفاظ على المشروع والأهداف
الاستراتيجية، وقد يختلفان على الطريقة التي تؤدي في كل مرحلة لتحقيق هذه الأهداف،
ولذلك يبدي كل منهما استعداداً لدفع "ثمن" مختلف من أجل توسيع قاعدته
البرلمانية، بما يمكنه من الحسم من خلال توسيع ائتلافاته، بشكل يبدو للوهلة الاولى
غير تقليدي، او مخالف عمّا يعهده المراقب
للجولات الانتخابية الماضية.
المهم ان اسرائيل دخلت ازمة دستورية جدية،
ولم تنجح جولات الانتخابات الماضية من حسم الصراع بين التيارات المتنازعة، وتبرز
عمق الأزمة ليس في الفشل المتكرر بتشكيل الائتلافات القادرة على الحكم فحسب، بل في
الصراع الدائر بين التيارين (وداخلهما) على شكل الحكم، وطبيعة المرحلة التي يمر
بها المجتمع الاسرائيلي بعد 72 عاما من نشوء الدولة. وبالتأكيد فإن ملفات الفساد
ولوائح الاتهام التي يواجهها زعيم احد التيارين تلعب دوراً مؤثراً في رسم معالم هذا
المشهد المتأزم.
ويرتبط عمق الأزمة مع نجاح تيار الاستيطان
الديني بالوصول الى غالبية مفاتيح الحكم بالدولة، كنتيجة لفعل وحضور سياسي فاعل
منذ عام 1977، والمتزايد في العقدين الأخيرين. ويظهر هذا النجاح بسيطرة هذا التيار
على الكنيست، الذراع التشريعي ونجاحه بتشريع القوانين العنصرية التي تخدم اجندته
وفرض رؤيته بتقسيم موارد الدولة وتوجيهها للاستيطان، حتى وصل بنفتالي بينيت رئيس
حزب "البيت اليهودي" واحد رموز هذا التيار ان يصرح في احدى اعلاناته
الانتخابية، بأن المعركة الانتخابية الاخيرة، "ليست بين يسار ويمين، بل بين
اليمين واليمين، فلدينا 80 مقعدا يمينياً مضموناً بالكنيست"- على حد تعبيره!!.
بالإضافة لتوسع تمثيل هذا التيار في الوزارات المختلفة والحكومات المتعاقبة التي
شكلها نتنياهو منذ وصوله للحكم، وتشجيعه لهذه التيارات والتحالف معها وفقاً لاحتياجاته
الانتخابية التي تماشت مع رؤيته الأيدولوجية، على سبيل دوره البارز والمعلن
بالانتخابات الاخيرة حيث مهد لنجاح حزب المستوطنين الفاشي "عوتسماه يهوديت"،
الذي يمثل استمرارية لحزب كهانا الإرهابي.
من المهم الإشارة الى أن ما منع مشاركة أي من
الأحزاب العربية بالحكومة حتى اليوم، لم يكن متعلقاً بها او ببرامجها أو استعداد قياداتها
ورغباتهم، بل بحقيقة امكانية تشكيل الائتلافات دونها من أحزاب "الاجماع
الصهيوني" فقط، وقناعة غالبية الاحزاب الاسرائيلية بأهمية ضمان بقاء الحكم في "الدولة اليهودية"
مسنودا للأحزاب الصهيونية واليهودية، والإجماع على إبقاء الأحزاب "غير
اليهودية" (غير الشرعية بالمعنى) خارج مؤسسات الحكم والتأثير بكل الأحوال!!.
المستوى الفلسطيني العام:
فيما
خاضت اسرائيل جولتها الانتخابات الرابعة خلال عامين، كانت السلطة
الفلسطينية تستعد لانتخابات أولى منذ 16 عاماً، وتلك الانتخابات تأتي الاولى بعد
"الحسم العسكري" لانتخابات عام 2006، والتي نشأ عنها الانقسام الفلسطيني
بين سلطتي رام لله وغزة، الذي لا زال يطغى - بالإضافة للاحتلال- على الحياة الفلسطينية
بكل جوانبها.
وفي غياب المشروع الوطني الموحد، بعد تهميش
منظمة التحرير الفلسطينية، وشل مؤسساتها ومجلسها الوطني، واقصاء غالبية الشعب
الفلسطيني عن مؤسسات السلطة، (اللاجئين، الشتات وفلسطينيي 48)، ظهرت تيارات سياسية
تعمل على فصل النضال الفلسطيني في الداخل عن سياقه الوطني العام، وتتماشى رؤيتها
مع "مشروع اوسلو" وحدوده الجغرافية المتهالكة بفعل الاستيطان وسياسة
الهدم والإحلال السكاني، التي لم تتوقف يوماً عن ملئ الفراغات الجغرافية والسياسية
المصنوعة في اتفاقيات اوسلو وتوابعها الاقتصادية والامنية والسكانية الجغرافية.
وضمن هذه الرؤيا المحدودة، لعبت السلطة
الفلسطينية دورا في دعم "مبادرات التواصل والتعايش العربي اليهودي"، كما
دعمت ووضعت ثقلها لتشكيل "القائمة المشتركة" عام 2015، ورأت بها وسيلة للتأثير على الخيارات
الاسرائيلية، وترجيحاً لأحد تياراتها التي حاربت نتنياهو، سعياً منها لتعزيز القوى
الساعية للعودة "لمفاوضات السلام" أو الداعية لإحياء "عملية
السلام" التي دفنها نتنياهو دون ان يعلن الفلسطينيون وفاتها رسمياً.
والحقيقة أن هذه الرؤيا لدور "القائمة
المشتركة" من قبل السلطة الفلسطينية، تماشت (مع تباينات طفيفة)، مع مواقف
أحزاب القائمة المشتركة وغالبية قياداتها، التي وضعت شعارها "بإسقاط
نتنياهو"، ورأت بحصولها على 15 مقعداً "سداً أمام تشكيل حكومة يقودها
نتنياهو"، وبالتالي لم تجد حَرَجاً سياسياً أو أخلاقيا من التوصية على
الجنرال قائد الأركان السابق جانتس!!. ولم تنتقد موقفها هذا، حتى بعد ان أخذ جانتس
هذه التوصية وشكل مع نتنياهو حكومته بعد الانتخابات الماضية.!!
ومن مراجعة بسيطة نتذكر ان المشتركة-
بأحزابها الأربعة- أوصت على الجنرال غانتس، والزمت التجمع برغم مواقفه المعلنة حول
التوصية، دون أن ترى بذلك حرجاً او تهتز لها قصبة، ووجدت في أكثر من مناسبة طرقاً
لتبرير تعاونها باللجان والتصويت مع حكومة نتنياهو (سرا وعلانية، بالحضور او
الغياب!) في الكثير من المناسبات والمواضيع، وهي بذلك تكون كمن فتح الباب أمام
مركباتها بالتسابق أو الاختلاف في سرعة وطريقة القيام بذلك من أجل "مراكمة
الانجازات والخدمات". وها هي "القائمة الموحدة" شريكة المشتركة
بالأمس، تعلن اليوم عن استعدادها للمضي قدماً بهذا التوجه، وتتفاوض على قرارها
بالتوصية وأكثر من ذلك، مع كل الأطراف الاسرائيلية المتنازعة على تشكيل الائتلاف
القادم!!.
ووفق كل التقييمات فقد ثبت بالتجربة العملية أن
"التنسيق والمشاركة" للأحزاب العربية في الحكم ورغبتها المشاركة بتقاسم
الموارد، لا يعتمد على "رغبتها" او قوتها الانتخابية، وإنما على استعداد
التيارات الاسرائيلية وموافقتها للاستفادة من اصوات العرب لتحقيق برامجها واهدافها،
خاصة وان الثمن المطلوب منها لا يتعلق بالقضايا الاستراتيجية وطابع الدولة
(الصهيونية، يهودية الدولة، الاحتلال والاستيطان القدس واللاجئين وغيرها)، ويقتصر
في أقصى حد على مطالب مدنية وزيادة الحصة الاقتصادية في السياسات الداخلية للدولة،
والتمثيل في بعض اجهزة الحكم الهامشية!!. وهو ثمن قابل للتحقيق لدى قطاع آخذ
بالتوسع داخل التيارات الاسرائيلية، ويرتبط باعتبارات البراغماتية السياسية، والفشل
المتكرر لهذه التيارات بتشكيل الائتلافات المستقرة والقادرة على الحكم بالاعتماد
على تحالفاتها التقليدية فقط.
ومن المهم هنا الإشارة ان النقاش بين
التيارات الاسرائيلية المتنافسة، حسمته دوائر القرار في اللوبيات اليهودية
الصهيونية في امريكا منذ سنوات من خلال شرعية دعمها المعلن للاحزاب العربية، وعملها
لزيادة التصويت لدى العرب بهدف "اسقاط نتنياهو". وقد ظهر ذلك جلياً من
خلال المبادرة واستعداد اللوبي الصهيوني الامريكي (اليساري!) لدعم فكرة إقامة المشتركة
منذ 2015، وترحيبها بقيادة المشتركة بأكثر من مناسبة، ودعمها المالي السخي والعلني
لحملات وائتلافات اقامتها جمعيات عربية لزيادة التصويت عند العرب، علاوة على ما
نشر مؤخراً من تقديم مليونير يهودي كندي ضمانات مالية لقروض لدعم مشاركة حزب عربي "جديد"،
نشأ قبيل الانتخابات الأخيرة (قام بالانضمام للمشتركة لاحقاً)، وفي ذات الوقت الذي
دعم وقدم الضمانات لحزب "هتكفا هحدشاه"
الذي يقوده جدعون ساعر اليميني المتطرف!!. وهو ما يشير بوضوح الى أن اهتمام اللوبي اليهودي
الصهيوني الداعم للتيار الاسرائيلي الذي يرى باستمرار حكم نتنياهو عقبة، ويرغب
بتغييره حفاظاً على صورة اسرائيل امام امريكا بشكل خاص، والغرب عموماً. ويطمح من
خلال "دعمه" للأحزاب العربية تخليص اسرائيل من ازمتها المتفاقمة.