07‏/12‏/2011

إسرائيل تحتفل بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان بمخالفة قواعده


بقلم: محمد زيدان

مدير عام المؤسسة العربية لحقوق الإنسان

في الوقت الذي تحتفل فيه البشرية "باليوم العالمي لحقوق الإنسان" بمناسبة الذكرى السنوية لإقرار الأمم المتحدة "للإعلان العالمي لحقوق الإنسان" بوصفه واحداً من أهم الإعلانات الكونية التي تؤكد عالمية حقوق الإنسان وترابطها، فإن نظرةً على مكانة هذه الحقوق في إسرائيل في العام الحالي تشير بما لا يدع أي مجالٍ للشك لتراجعات جديّة بمستوى إحترام هذه الحقوق، علاوة على تزايد المحاولات الرسمية للإنقضاض على الهامش (الضيق أصلاً) لهذه الحقوق، من خلال تقديم إقتراحات القوانين العنصرية المعادية بجوهرها ومنطلقاتها لكل المعايير الإخلاقية والقانونية التي جاء الإعلان العالمي ليبشر بها.

ومراجعة سريعة لأوضاع حقوق الإنسان في إسرائيل لهذا العام، تظهر صورة قاتمة غير مفاجئة في تعداد إنتهاكاتها بقدر ما هي غير مفاجئة بتعداد المحاولات الرسمية لجعل تلك الإنتهاكات منظمة وقانونية تأخذ شرعيتها وديمومتها من خلال قوانين رسمية تضمن التمييز العنصري المأسس على قاعدة إنتهاك الحقوق بشكل فعلي مباشر أو وضع شروط وقيود قانونية من ِشأنها أن تفتح المجال أمام السلطات السياسية والقضائية بإنتهاكها متى شاءت.

"حقوق الإنسان هي حقوق لكل إنسان، يتمتع بها الإنسان لا لسبب إلاّ لكونه إنساناً".. هذه هي القاعدة الأساسية التي قامت عليها كافة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومن المؤكد أن إقتراحات البرلمان الإسرائيلي وقوانينه تتجاوز هذه القاعدة لتجعلها تبدو على نحو أن حقوق الإنسان والمواطن هي حقوق تتكرم بها الدولة على مواطنيها "الصالحين" من وجه نظرها، أي أنها تقوم على قاعدة إعتبار هذه الحريات والحقوق هبةً أو هديةً من الدولة وإمتيازاً ممنوحاً لمواطنيها لا حقاً من حقوقهم الأساسية، وبالتالي فإنه يصبح من حق الدولة (حكومة، برلمان، قضاء) سحب هذه الحقوق (واسترجاع الهدية) في ظروف تحددها وفق ما تراه مناسباً لمواقفها السياسية التي تقوم عليها تلك القوانين المقترحة. ولذلك نجد هذا البرلمان يضع خلال العام الحالي مجموعة من القوانين، يقر بعضها، وأخرى أكثر منها في طريقها للإقرار، توضح مفهوم "المواطن الصالح" الذي "يستحق" هذه الحقوق من وجهة نظرها... بل وتضيق الحدود على هذا المفهوم لتجعله يقتصر على المواطن اليهودي/ الصهيوني الذي يخدم بالجيش ومؤسسات الأمن الأخرى. وبطريقة تجعل من غير الممكن للمواطن العربي في هذه البلاد أن يكون جزءً من أي تعريف يشمله هذا "الكَرَم" السياسي الإسرائيلي.

رغم أن الطابع العنصري والتمييزي لتعامل دولة إسرائيل تجاه الأقلية الفلسطينية في البلاد ليس جديداً، بل تضمنه المفاهيم السياسية والقانونية "لدولة اليهود" منذ نشوءها.. إلاّ أن المرحلة الأخيرة تمتاز بإنتظام الحملة وتحديد أهدافها بشكل لا يقبل الشك: تضييق الحيّز الديمقراطي الذي يمكن الحديث من خلاله عن إحترام حقوق الإنسان، أي قوننة التعريفات لذلك الحيز، ووضع الشروط التقييديه على محتواه وتضييق حدوده، ومن ثم وضع القوانين التي تضيق على الأدوات والأطر التي من شأنها أن ترفع لواء هذه الحقوق وتدافع عنها في أي نظام ديمقراطي بالعالم: أي المجتمع المدني عامة ومنظمات حقوق الإنسان تحديداً، والجهاز القضائي بشكل عام، والمحكمة العليا بشكل خاص، إضافة لتشديد الرقابة وإشهار سيف الغرامات على الصحافة لمنعها من القيام بواجبها المحدد بنقد السلطة وفضح إنتهاكها.

شهد العام 2011 طرح سلسلة من إقتراحات القوانين كان الهدف منها تحديد حرية التنظيم والتعبير، وحرية التفكير والمعتقد، كان من جملتها إقرار "قانون المقاطعة" الذي جاء ليمنع منظمات المجتمع المدني، وخاصة الحقوقية منها، من المساهمة بالحملة العالمية للمقاطعة وسحب الإستثمارات التي أخذت تجتاح دولاً عدة إحتجاجاً على ممارسات إسرائيل القمعية للشعب الفلسطيني تحت الإحتلال، وقد جاء إقرار هذا القانون على نفس القاعدة التي إقرت بها الكنيست الإسرائيلية "قانون النكبة" في آذار من نفس العام، والذي يندرح ضمن محاولة الكنيست لفرض قيودها على الذاكرة الشخصية للأفراد والمجموعات، وفرض أجندتها السياسية على كل ما هو غير يهودي فيها!!

وضمن ذات التوجه لتقييد حرية الجمعيات الحقوقية، جاءت إقتراحات القوانين لفرض قيود على التمويل الحكومي الخارجي لهذه الجمعيات من خلال إقتراحات تشدد المراقبة (الموجودة أًصلاً) على هذا التمويل علاوة على إقتراحات لفرض ضرائب تتجاوز 45%!! على هذه المدخولات، الأمر الذي من شأن إقراره أن يؤدي للمساس بقاعدة العمل التي تعمل تلك المنظمات الحقوقية عليها.

وعلى الجبهة الأخرى يركز اليمين الإٍسرائيلي جهوده لأحكام السيطرة على المحكمة العليا بعد أن أجهز على السلطة التشريعية والتنفيذية ليثبت سيطرته على أجهزة الدولة جميعاً، مدعوماً برأي عام لا يقل عنصرية، وتأييد متزايد في الشارع الإسرائيلي. ويأتي هذا الهجوم بصورة إقتراحات تجيز للجهاز السياسي التدخل بشكل فاعل وواضح بالجهاز القضائي، من خلال إقتراح قوانين تجعل تعيين القضاة في المحكمة العليا خاضعاً لإقرار الكنيست وموافقتها، إضافة لتغيير تركيبة اللجنة المسؤولة عن تعيين القضاة، وتغيير معايير تعيين رئيس المحكمة بما يضمن رئاسة المحكمة لمرشحين يدعمون هذا التوجه اليميني في السياسة والقضاء.

ولكي تكتمل دائرة السيطرة اليمينية على مؤسسات الدولة بصورة مطلقة، فإن جزءً من هذه الهجمة يوجه نحو الإعلام من أجل تحديد الحريات الصحفية، الأمر الذي ظهر من خلال قوانين تمثل رفع سيف دائم يهدد الصحافة بغرامات مالية باهظة تحت حجة "التشهير"، الأمر الذي يهدف لإخراس صوت الصحافة المحلية، ومنعها من القيام بدورها كسلطة رابعة تقوم بمراقبة السلطات التشريعية والتنفيذية، وتمثل نافذة لتعريف الرأي العام المحلي والعالمي على ما يحصل داخل هاتين السلطتين.

ولكي تزداد الصورة وضوحاً تقدم إقتراحات قوانين توسع المجال أمام المؤسسة التنفيذية لإعلان "حالة الطوارئ"، ولتضع بيد الحكومة صلاحيات مطلقة تقّيد الحريات المدنية والحقوق الأساسية، وتخولها إقرار صلاحيات واسعة لأجهزة الأمن المختلفة في تعاملها مع المواطنين. هذا الإجراء من شأنه توسيع رقعة "الطوارئ" القائمة في الدولة منذ قيامها بحجة الأمن، وجعل صلاحيات السلطة التنفيذية حتى فوق القوانين التي وضعتها الكنيست بذاتها!!

إذا فإن ما يجري داخل إسرائيل من تشريعات تجعل الصورة أقرب الى محاولة القوى اليهودية اليمينية السيطرة على منافذ حقوق الإنسان، وإغلاق الباب أمام الحريات الأساسية المحدودة أصلاً، من خلال إحكام السيطرة على السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، مستعينةً بأجواء الدعم والتأييد الشعبي لهذه التوجهات، الأمر الذي يرسم صورة قاتمة أمام منظمات حقوق الإنسان، وواقعاً لا يمكن بأي حال من الأحوال إدراجه تحت أي مسميات ديمقراطية مهما حاولت إسرائيل تسويقها وتجميلها أمام العالم. وهو ما يعني سقوط الكذبة حول "ديمقراطية إسرائيل"، ويضع المجتمع الدولة بمؤسساته الرسمية والشعبية أمام تحديات تتطلب التحرك السريع لفضح هذه الصورة، والتعريف على عنصرية إسرائيل لا في ممارساتها في المناطق الفلسطينية المحتلة منذ عام 67 فحسب، بل في ممارساتها المنتظمة وقوانينها الرسمية التي تتناقض ومعايير حقوق الإنسان العالمية، التي تحتفل البشرية بها من خلال "اليوم العالمي لحقوق الإنسان"!!

وأخيراً تؤكد هذه الصورة أن الدور العالمي لا يجب أن يقتصر على فضح تلك العنصرية بمقدار الحاجة للتحرك بشكل فعال والإنتقال من النقد والتنديد الى الفعل المؤثر من أجل وقف الإنتهاكات ومكافحة العنصرية ووضع القواعد للرد عليها بما تمليه قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان بحد ذاتها.