01‏/10‏/2010

الشهداء - اراهم يسيرون نحو الوطن

استطيع ان اجزم اليوم (كما منذ اكثر من عقد) ان الشهداء على تعدادهم, لم يعودوا ينتظرون التحقيق في من قتلهم بدم بارد... لم يعودوا ينتظرون ما يتكرم به الوحش القاتل على ضحيته بعد افتراسها .... صرت اعتقد أنهم يشاهدون محاكم التفتيش من بعيد, ويراقبون لجان التحقيق ويعدون الجرائم التي تلت جريمة اغتيالهم واحدة تلو الاخرى.... يشاهدون من بعيد, ويضحكون لأمرنا ويرسحون قناعاتهم بأن لا فائدة ترجى من كل التحقيقات واللجان التي لايبقى من ومضات الكميرات التي ترافق المؤتمرات الصحفية التي طالما تزف قرارات هذه اللجان وتوصياتها في طريقها للاندثار والموت دون ان تترك لها أثراً يذكر ... اراهم يعلموننا مرة تلو الاخرى أن لا عدالة ترجى من حاكم تأسست جدران عدالته على بقايا مقابر قرية هجر اهلها قبل 60 عاما او ما يزيد. ولأن الشهداء لا يرون بقضتهم سوى استمراراً لجريمة تمتد منذ أمدٍ طويل, فانهم لا يستعجلون طريقهم الى الذاكرة ... انهم يسيرون في قافلة طويلة من الشهداء... قافلة غالبيتها من الاطفال والنساء والمدنيين الضحايا... ليسوا ابطالا بفطرتهم ولا محاربين بغالبتهم..., انهم ضحايا الجريمة المستمرة لفكرةٍ مفادها انه لم يكن من المفروض وجودهم اصلا على هذه الدنيا, على الاقل ليس في هذا الزمان ولا هذا المكان!! فإن مجرد وجودهم هناك, كان مقاومة من حيث لم يدركوا... مقاومة تنفي فكرة "الارض بلا شعب" التي ابتدعوها, فكيف لهم ان يوقفوا "حلم الشعب العائد لارضه" رغم التاريخ والجغرافيا.؟؟ بقوة النار والحديد والدبابة وكل اصناف السلاح السياسية والعسكرية جاؤوا لتثبيت اقدام مملكة التاريخ المنسوخ من اساطير سليمان ونبوخذ نَصّر!!.

منذ زمن طويل ترى الشهداء يسيرون في قافلة لا تتوقف عن التوسع والازياد في تعدادها..., وفي كل مرة ينضم اليها الشهداء الجدد, يسيرون في معية خالد وعمر وسليم الذين لازالوا يحملون مناجلهم منذ اغتالتهم ايدي غريبة في حقولهم وهم يحصدون القمح قرب قسطل صفورية.... وفاطمة العباس التي لم تغادر عمرها البالغ خمس سنوات منذ اغتالتها يد العصابات في قرية الشجرة منذ اكثر من 60 عاما .. لا زالت تمارس اللعب بعروستها المصنوعة من قماش مهترئ استعارته والدتها من قمباز والدها بعد ان عافته ابر الترقيع منذ زمن طويل.

اراهم وقد اعتادوا على الجلبة المفتعلة حول احياء ذكراهم... اراهم يتبسمون مداعبة لنا في كل عام عندما تصلهم اخبار النقاشات حول ضرورة الاضراب العام او الاكتفاء بالمسيرات الشعبية...، فهم بكلا الحالتين لا يفهمون سـر هذه النقاشات ولا يرغبون بها من اجلهم ....!! انهم لا يرون انفسهم الا من خلال ما تتيحه قافلة الشهداء الممتدة من وعيهم بأن إدراك العَدل لا يأتي من محاسبة المجرمين بعينهم فحسـب !!... فهم منذ تم اغتيالهم لم يعودوا يمثلون انفسهم وشخوصهم التي اعتدنا عليها... تماماً, كما لا يمثل القاتل ذاته في معادلة الصراع بين العدوان والمقاومة لصده، أو ضمن معادلة العلاقة المنسوجة قسراً بين المجرم والضحية بفعل الجريمة وعلاقة الفعل بالفاعل!!. ولأن وليد وأسيل ورامز وعلاء ورفاقهم في هذه القافلة لا يرون بملاحقة رالف او رون - أو أياً كان اسمُه – عنواناً وحيداً للاقتصاص وعدالة قضيتهم, فإنهم كذلك لا يأبهون لأي المراتب تمت ترقيتهم، ولا لما حلّ بمستقبلهم المهني العسكري او المدني بعد تنفيذهم الجريمة.... . تماما كما لم يلتفت ابو الوليد منذ 54 عاماً لما طالَ شِدمي ومِلِنكي ورفاقهم بالجريمة, بعدما قاموا بتنفيذ أوامِر الإبادة في كفر قاسم بحق 43 مدنياً لا زالوا يرافقون قافلة الشهداء بأسمالهم البالية من مشقة العمل الذي كانوا في طريقهم للعودة منه ورائحة التراب الذي ما عاد قادرا على احتضان اجسادهم لطهارتها.

أراهم يبتسمون رحمة بنا, يشفقون على جهلنا وإمعاننا بقَرع أبوابِ الرّحمةِ المغلقة في قلعة القاتلين المؤسسةِ على غبارِ المعارك وأوهام العظَمة. فعُمر ومحمد ورامي لا تهمهم توصيات تيودور او شمعون أو كل من رافقهم في لعبة التحقيق الزائفة, لأنها لا تساوي قيمَة الورق الذي كتبت عليه ... , ولا تعنيهم بالتالي ما توصلت اليه لجنة التحقيق الوهمية من نتائج وتوصيات – ما طبق منها وما تم التخلص منه بمجرد جفاف الحبر الذي كتبت به – تماما ً كما علَّمتهم أُم عاطف ومئات الضحايا الذين ما زالوا يرافقونها في مسيرة الشهداء منذ أن صارت صبرا وشتيلا أسماءً لمجازر بعد ان كانت عنواناً لجريمة التهجير من قبل. فهم يذكرونها تكرر امامهم بوضوح ووعي لم يرونه من قبل "أن لا علاقة لها من قريب او بعيد بكل ما استخلصته لجنة كاهن, وما قاله القاضي براك في توصياتهم بعد المجزرة, ولا تعنيها باي حال من الاحوال ما آل إليه سـفاح الجريمة بعد أن صار رئيساً للوزارة مكافأة على إتقانه تنفيذ المهمة التي ارسله ربُّ الجُندِ من أجلها، وإتمام مُهمّةِ يِهوشاع بِن نون التي لم تكتمل في اريحا منذ الاف السنين.

أراهُم يسيرون في انتظامٍ غريبٍ لا نَراه في مراسِم إحياءِ ذكراهم, لا يرفعون سوى اعلاماً تجمّعت الوانها بلون الأرض ودماءَهم التي لازالت على صدورِهم شامةً ووسام ..... يسيرون نحو مستقبلٍ نجهلُه بمقدارِ ما يدركونَه.... أرى من بينِهم مصلح أبو جَراد يسير الى جانب رأفت علي الزهري, يتحدثون عن المشترك بين يوم الأرض وهبَّة القدس والأقصى .., يتفاكَرون بتلكَ الدوافِع التي أتِت بهم من دير البلح على أطراف الوطن الجنوبية, ومن نور شمس في قلب فلسطين لينضموا الى هذه القافلة طواعية بعيدا عن بلداتهم الاصلية !! , أسمعهم يتسائلون هل أدركنا الرسالة التي كتبوها من أجلنا بدمائهم عن علاقة الجليل بغزة, واحتضان الضفة للمثلث والنقب!! ، يتساءلون إن كان المعنى لرسالة القدس في قلب كل فلسطيني على طول الوطن قد رسخت !!, أراهم يتساءلون ويواصلون الابتسام والتقدم.

يستذكر أحمد لقاءه الأول مع خديجة وسهام , وكيف علّمته أم توفيق الغزاوية التي ما زالت تسير بمعيّة أطفالها التسعة في مسيرة الشهداء, بعد ان سقط سقف البيت عليهم وهم نيام في التاسع من آذار بعد أن أصابته قذيفة دبابة متقنة الصنع. كان ذلك في العام الذي يختزنه أحمد في ذاكرته التي اصابتها رصاصة مستوطن من كدوميم التي اقيمت على ارض اجداده. أسمعها تردد أمامه أن الأيام وبشـاعة الجريمة المتواصلة تجمعهم دوماً في هذه القافلة، وأن الخيط الرابط بين جريمة شارون بئر البقر هو ذاته الرابط مع جريمة شارون صبرا وشتيلا, والواصل الى جريمة شارون في دير البلح وجرائمه في القدس والاقصى !!, أسمعها تؤكد له أمام أطفالها أن لا يسيء فهمهما كما يفعل الكثيرون منذ زمن طويل , فيعتقد أن شارون او باراك او بيرس او أي اسم آخر, هو المسؤول عن كل هذه القصص المتابعدة بالزمن والمتقاربة بالمغزى!!, لا بل أن يفهم ما تود افهامه بشكل قاطع معتمد على تجربة تعامل الشهداء مع مقترفي مجازرهم , "أنهم مجرد لاعبين متفوقين بحمل رسالة الأسبقين منذ بن غوريون وحتى بيرس, وما مر بينهما من آلاف الاسماء التي لم تعد تذكرها بعد ان طال انتظارها للقاء الوطن. "إيّاك أن تظنّ أن القصة منوطةٌ بهذا المُجرم أو ذاك .. وإياك أن تعتقد بأن محاسبة هذا المجرم او ذاك , من شأنها أن تُحسَب في ميزانِ العدل والمسائَلة التاريخية..... وإياك أن تصدّق للحظةٍ واحدةٍ أن العدلَ والقصاصَ واردةٌ في ذهنِ هؤلاءِ المجرمين, االلهم إلا ما يستعملونَه لتضييع الحق وتشتيتِ العدالة".

اكتوبر 2010