17‏/06‏/2023

 اسرائيل لم تكن يوما، ولن تكون بفعل الاحتجاجات "دولة دمقراطية"!

 

 محمد زيدان – ناشط حقوقي وصحفي.

اسرائيل كدولة ونظام جاءت تجسيدا ماديا للفكر الصهيوني وقامت عمليا على قاعدة الاستعلاء والتفضيل العنصري الذي يمثل جوهر الفكر الصهيوني، الذي نشا في اوروبا،(كما الاستعمار الغربي لشعوب العالم)  وفرضت نتائجه  الاستعمارية الكارثية على الشعب الفلسطيني.

ويحمل جوهر فكرة "الدولة اليهودية" قيما عنصرية بمفرداتها وقوانينها وممارساتها، ويقوم على التفوق العرقي / الديني (اليهودي) على "الاغيار (الغوييم – الأغيار او غير اليهود)، ورغم ان الفكرة قامت على تعابير ومفردات دينية لكنها حملت ترجمات سياسية وقانونية منذ التطهير العرقي لفلسطين عام 1948 وفي ممارسات الحكم العسكري الذي رسخ فكرة الابرتهايد وتطبيق القانون وفق الانتماء القومي / الديني على اليهود و "غير اليهود". وبقيت عناصر هذا التمييز وتبعاته مستمرة في الفترة التي تلت انهاء الحكم العسكري، وظاهرة للعيان رغم محاولات تغليفها بحقوق مدنية واساسية لم تتجرأ على المساس بالجوهر القانوني الذي فرضته تطبيقات "الدولة اليهودية بالفعل. (سياسة مصادرة الاراضي، قوانين وسياسات التهويد، قانون العودة وغيرها)

وجاء احتلال باقي الاراضي الفلسطينية عام 67 ليوسع من نطاق الاستعمار والفصل العنصري وممارساته المنافية لكل ما هو ديمقراطي ومخالفة لقواعد القانون الدولي على انواعه لتصل حد تطوير نظام قانوني واضح المعالم في فلسطين التاريخية بين النهر والبحر على شكل نظام ابرتهايد وتطبيق قوانين وسياسات تفرضها على الشعب الفلسطيني، وتتحكم بها اسرائيل وفق احتياجاتها الامنية والسياسية.

القضاء جزء من منظومة القمع :

ووفق تلك الاحتياجات نرى ان السلطة والسيطرة الاسرائيلية وضعت انظمة قضائية واجراءات امنية وقرارات سياسية (بتسميات مختلفة) برزت بأشكال تحكم مختلفة على قطاع غزة الذي ابقت بيدها التحكم الفاعل والكامل بالحصار المفروض عليه، وسياسات التحكم وانظمة التمييز والاقتلاع ضد الفلسطينيين من اهل القدس المحتلة، فيما تم تقسيم الضفة لثلاث مناطق تملك فيها اسرائيل كل الصلاحيات الامنية ، وتركت في جزئها الاصغر بعض الصلاحيات المدنية لسلطة "تحكم" الناس دون ان تملك أي صلاحيات مستقلة فعلية على الأرض، بالإضافة الى ابقاء مساحة الصلاحيات الاساسية والكبرى "للإدارة المدنية" التابعة لجيش الاحتلال، لتخطط للاستيطان المتزايد، وتهدم للفلسطينيين وفق احتياجات خارطة الاستيطان التي ترسمها وتحددها شهوة التوسع  وبرامج "الدولة اليهودية".

وطورت اسرائيل نظاما قانونيا يقوم على التمييز والعنصرية داخل فلسطين 48 بين اليهود والعرب (قانوني مباشر، مثل العودة وحق المواطنة – وقانوني غير مباشر مثل سياسات التهويد، ولجان القبول وتوزيع الارض. وتمييزا مؤسساتيا مثلما يحصل في الميزانيات وتوزيع الموارد، وممارسات الشرطة ومؤسسات الدولة المختلفة).

ومن اجل تنظيم سيطرتها ونظامها العنصري طورت جهازا قضائيا متطورا يمثل "الدرع الواقي للدولة" (كما اسماه بعض المدافعين عن النظام القضائي)، ومجموعة من القوانين والسياسات التي فتحت مجال التقاضي امام المؤسسات القضائية  في حدود قبول التفوق العرقي واللعب في ملعبه ووفق قواعده المرسومة (المتاحة امام كل المساحة الجغرافية التي يتحكم النظام بها)، مع وضع ضوابط قانونية لضمان بقاء السيطرة الفعلية لدولة اليهود، وحماية مصالحها الامنية والسياسية الاستراتيجية، حتى في الحالات التي تم تحقيق "بعض الفوز" التكتيكي في بعض القضايا المتعلقة بالحقوق المدنية والادارية .

الفاشية أكبر من بن جفير وسموطرتش:


استندت كل الممارسات والقوانين العنصرية الى رأي عام ينحو منذ عقود الى اليمين، وحتى اليمين الفاشي بخطوات شعبوية متسارعة وواضحة. تمثل نتائج الانتخابات دليلا واحداً عليها، وكانت تمر محطاتها بسيطرة تدريجية لليمين الفاشي والتيارات الدينية الاستيطانية والصهيونية - على انواعها - على مفاتيح الحكم  ومؤسساته في الدولة، والتي هيئت الظروف والمناخ (خلال عدة عقود) لنشوء قاعدة شعبية شعبوية جلبت الحكومة الحالية للحكم، والتي تعتبر التمثيل الافضل والحقيقي للواقع السياسي والاجتماعي الذي يعيشه المجتمع الإسرائيلي اليوم.

مع التذكير الى ان انتخابات نوفمبر الماضي كانت خامس جولة انتخابية، جاءت بعد ثلاث جولات فشلت نتائجها بالسماح لأي من الأطراف تشكيل ائتلاف حكومي رغم فوز اليمين بغالبيتها - بسبب الانقسامات الحاصلة داخل "معسكر اليمين" ،  فيما ادت الانتخابات الرابعة لانجاب حكومة هجينة مثلت "طفرة" وحالة مؤقتة كمحاولة لإنقاذ اسرائيل من ذاتها ومن تبعات ازمتها – وفق تصريحات قياداتها- وجمعت الحركة الاسلامية مع  بينت مدير مجلس الاستيطان، وشكيد حلفاء سموطرتش في تلك الجولة الانتخابية، وليبرمان وجانتس مع ميرتس والعمل.

وجاءت حكومة نتنياهو السادسة لتعيد المسار الذي دخلته اسرائيل وتعزيز استمرار اليمين إحكام سيطرته على مفاتيح السلطة، الذي ترسخ منذ اواسط السبعينات، واعادته الى مساره الأصلي بعد ان حقق سيطرة ملحوظة في الحكومة والكنيست، ومشاركة في مؤسسات الجيش، والاعلام، والمجتمع المدني، ونجاحه في احداث تغييرات بارزة في تركيبة المحكمة وتمثيل التيار اليميني المحافظ، وحتى الاستيطاني، في المحاكم والجهاز القضائي (عبر صفقات نجحت وزيرة القضاء شكيد بعقدها مع رئاسة المحكمة العليا في لجنة تعيين القضاة- حينها).

لقاء المصالح:

ويبدو ان اللحظة السياسية التي حملت رئيس حكومة يواجه ملفات فساد ورشاوى مع وزراء من "شبيبة التلال" مدانين بدعم الارهاب، واخرين سجناء بتهم الفساد، جمعتهم بتيارات لديها حسابات مفتوحة مع "الوضع القائم"، وترى بالحكومة الحالية (حكومة "يمين كامل")، باعتبارها فرصة تاريخية لتغيير قوانين اللعبة للابد، وفق رؤيتها السياسية وخدمة لمصالحها ومصالح قياداتها وبرامجها. فالصهيونية الدينية، تريد "حسم الصراع" على الضفة الغربية قانونياً وانهاء امكانيات طرح حل الدولتين فعلياً، بعد أن حسمته بالاستيطان على أرض الواقع؛ والأحزاب الدينية الحريدية تريد فرض بعض قواعد "دولة الشريعة" الدينية، وتوسيع مساحة سيطرتها على الحيز العام؛ وزيادة الميزانيات للمدارس الدينية الحريدية، ومنع تجنيد اتباعها، وبِن غفير يريد تطبيق قواعد اللعبة التي تربى عليها في شبيبة كهانا وشبيبة التلال، من خلال قوانين الدولة الرسمية وممارساتها، فيما يرى "الشرقيون" في اللحظة مناسبة لتغيير وإنهاء القوانين التي اتاحت استمرار سيطرة الطبقة الأشكنازية على موارد الدولة ومفاتيح القوة فيها، رغم نجاح الشرقيين في بلورة ائتلافات اغلبية (بتحالف مع التيارات الدينية الحريدية وتيارات الاستيطان والصهيونية الدينية) تمكنها من السيطرة الفعلية، مسنودين بنجاح انتخابي واضح، فيما تلاقت كل هذه المصالح مع طبقة سياسية شعبوية متجذرة داخل الليكود، ومصلحة نتنياهو الذي يراها فرصة للإفلات من التهم الموجهة له بالفساد وخيانة الامانة، عبر تغيير النظام القضائي الذي سيقوم بمحاكمته.

في الوقت ذاته فان المواطن اليهودي العادي، يرغب في تجسيد الشعور الذي ذوتته الغالبية العظمى من المجتمع الاسرائيلي في داخلها، بأن إسرائيل قد انتصرت، وأن الصراع بين الحركة الصهيونية والحركة القومية العربية قد وصل إلى نهايته بهزيمة الأخيرة، وانتصار الدولة الصهيونية، وبالتالي فقد آن الأوان لترجمة هذه الانتصارات إلى إنجازات على أرض الواقع.

وفي خضم هذا الصراع الداخلي الحقيقي تجندت الطبقة الحاكمة والمتسلطة على مؤسسات الدولة منذ تأسيسها، للدفاع عن مصالحها، وعن وجه "مشروعها" امام العالم، واستعانت في جهودها، بتشكيل ائتلاف واسع بقيادة احزابها السياسية، ، وتجنيد قيادات المؤسسات الامنية، والقوى الاقتصادية التي شملت رؤساء البنوك وقيادات شركات الاستثمار وصناعات الهايتك المتقدمة، والمؤسسات الاكاديمية والنخب الثقافية، بالإضافة لتجنيد الدعم الخارجي من يهود امريكا، وقيادات سياسية اوروبية ضمن المصلحة "والقيم الليبرالية والعلمانية المشتركة".

العرب خارج "الائتلاف":

لكن هذه الطبقات الاشكنازية التي نجحت بتنظيم حركة احتجاج حقيقية، مدعومة بتنظيماتها الاجتماعية والأهلية الغنية بمواردها وخبراتها، حددت منذ البداية شعاراتها وحدود توقعاتها من الائتلاف، ورسمت سقف مطالبها من الاحتجاجات بالحفاظ على الواقع بقوانينه القائمة ومنع التغييرات المقترحة على النظام القضائي، وبرأسها تعيين القضاة وتقييد المحكمة العليا، والعودة "للقوانين الاساسية" و"وثيقة الاستقلال" باعتبارها قواعد اساسية ضابطة لقوانين اللعبة السياسية والاجتماعية في الدولة، حتى تشكيل الحكومة الاخيرة.

أي ان المطالب لم ترقى للمطالبة بتغيير "الواقع" او تغيير "قواعد اللعبة" بما يغير بجوهر الدولة، ولا حتى بمستوى الحقوق الفردية او الجماعية. أي انها اكتفت بحماية "الانجازات" والتمسك بالجوهر التمييزي للدولة اليهودية القائمة منذ 48. بل ومنعت حتى، بتصريحات قيادتها رفع شعارات تتجاوز المطالب المدنية، وسقف المطالب الذي حددته كشرط لمشاركة "عرب اسرائيل" بوصفهم مواطني اسرائيل ومتضررين من التغييرات المقترحة، لا كشركاء متساويين يمكنهم  طرح سقف نضالي مختلف، يتطرق لجذور القضية ومسبباتها الحقيقة – وجندت الإعلام لكبت أي حديث عن ارتباط التمييز في القضايا المدنية بالظلم التاريخي الحاصل على الشعب الفلسطيني بأسره، او الحديث بان "شعار المساواة المدنية" تم انتهاكه على يد الحكومات المتعاقبة منذ قيام الدولة، لا منذ تولي نتنياهو وسموطرتش سدة الحكم!!

ولم تترك قيادة الاحتجاج أي فرصة الا وتحدثت ضد رفع العلم الفلسطيني باعتباره "مسيئا للاحتجاج وأهدافه"، وان لا علاقة للاحتلال بمظاهراتها "لحماية المحكمة العليا"، وان "الوقت غير ملائم لانتقاد المحكمة والجهاز القضائي". وتعاملت تلك القيادات باستعلاء قومي معهود حتى مع المشاركين من "عرب اسرائيل" باعتبارهم الاحتياط لأجنداتها، لا كشركاء لها، ولذلك رأت بأعضاء الكنيست العرب، وبضمنهم من شاركوا ويرغبون بالمشاركة بالاحتجاج لأسباب ايديولوجية وسياسية، تابعين واحتياط، لا كشركاء متساوين في صياغة الشعار ورسم السقف السياسي لتلك الاحتجاجات .

باختصار حول بعض المرجعيات المؤسسة للاحتجاج :

العودة لقيم "وثيقة الاستقلال"  كقيم موجهة للاحتجاج، هي تماما كما هو الحال بالعودة اليها في القوانين الاساسية للدولة، أي باعتبارها قيماً قاعدية ومؤسسة، فيما ينظر اليها الفلسطيني باعتبارها تجسيدا للنكبة المستمرة، وتأسيساً لقبول نتائجها والتصرف بدونية وقبولاً للاستعلاء القومي الذي يعانيه في كل مناحي الحياة.

و"الثورة القضائية " المقترحة على المحكمة العليا والجهاز القضائي، ليست الا استمرارا لدور هذا الجهاز وهذه المحكمة التي  لعبت دور "الدرع الواقي للدولة" والمبرر لكل جرائمها تجاه الشعب الفلسطيني امام العالم. هذه المحكمة التي تبنت ما يسمى إسرائيلياً "الأمن القومي"- وشرعت بموجبه انتهاكات القانون الدولي ومواثيق "حقوق الإنسان"، حين رأت ضرورته لاستمرار "الطابع اليهودي للدولة"، مشرعة استمرار العنصرية وجرائم الحرب "لاعتبارات امنية".  والمحكمة العليا هي ذاتها التي شرعت تشتيت العائلات بمسميات قانون منع لم الشمل، واقامة الجدار العنصري، والقاء قنبلة بوزن طن على بيت في غزة، وشرعت الابعاد والاستيطان، وبررت ترحيل القرى العربية في النقب لإقامة المزارع والبلدات اليهودية، ومصادرة الارض وتهويد الجليل، والهدم في المثلث وتجريف المقابر لإقامة المتاحف!!..... وقائمة قرارتها لتبييض صفحة الاحتلال ووجهه تطول وتطول. ولكن باختصار كانت ولا زالت المحكمة هي الاداة الطيعة بيد النخبة (الاشكنازية) الأكثر فاعلية  لتبرير العدوان على حقوقنا المدنية  الفردية والوطنية الجمعية على السواء.

الغائب الحقيقي:

ومما لا شك فيه يبدو وسط هذا الاحتجاج التأثير الواضح لغياب المشروع الوطني الشامل، الذي يعالج المرحلة وتحدياتها بمبادرات تفتح النقاش ومشاركة الناس آرائها والقيام بخطوات حقيقية تشمل الفعل ورد الفعل، دون ان تغييب الرؤية الوطنية بعيدة المدى، مما يفتح الباب امام مواقف وبرامج تخترق المجتمع الفلسطيني تحت سقف اسرائيلي متماثل مع رغبات قيادة الاحتجاج (في الداخل، وعموم الشعب الفلسطيني) مسنودة بتحاليل وتقييمات المصلحة اللحظية والحزبية الضيقة.