30‏/08‏/2012


ثلاث ملاحظات على رد المحكمة دعوى عائلة راشيل كوري

محمد زيدان- المدير العام للمؤسسة العربية لحقوق الإنسان

أصدرت المحكمة المركزية في حيفا هذا الأسبوع، قرارها رفض الدعوى التي تقدمت بها عائلة كوري، ضد دولة إسرائيل لمسؤوليتها عن مقتل إبنتها راشيل كوري دهساً بجرافة عسكرية أثناء تواجدها في منطقة رفح- قطاع غزة بالعام 2003. وقد تناولت الصحافة العالمية والمحلية القضية، فيما أعاد قضية الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وممارسات الجيش الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية المحتلة الى الأضواء.
ومن وجهة نظر قانونية تجدر الإشارة الى ثلاثة مواضيع يبرزها القرار، والتي لا تتعلق بقضية كوري لوحدها، بل تتجاوزها لتبرز المكانة المتدنية للقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان في قرارات وإعتبارات الجهاز القضائي - كما السياسي والعسكري الإسرائيلي.
أولاً: يفتتح القاضي جرشون قراره بهجوم على منظمة التضامن العالمية (ISM) التي إنتمت المرحومة كوري لها، وهي منظمة عالمية يحاول أعضاءها منع الإنتهاكات من خلال التواجد الفعلي في المناطق المستهدفة، إيماناً أن هذا التواجد -المدني السلمي - من شأنه أن يوفر شهادة موضوعية مباشرة لمجريات الأمور أولاً، وأن يشكل (التواجد الأجنبي) حائلاً أمام إرتكاب الإنتهاكات، بحيث يتحول الناشط الى  طرف ثالث يوفر تواجده الحماية للضحية بإعتبارها الطرف الأضعف في المعادلة.
ويتطرق قرار المحكمة لهذا التواجد بإعتباره المنظمة (ISM) "بأنها تقدم الدعم المادي واللوجستي والمعنوي للفلسطينيين، بما في ذلك المخربين وعائلاتهم" بالإضافة الى كون عمل التنظيم الفعلي "يستغل خطاب حقوق الإنسان والقيم الأخلاقية بصورة سيئة من أجل التغطية على نشاطه العنيف"!!...وفق نص القرار، إن مجرد طرح هذه التقيمات، فإنما يُظهر إنضمام الجهاز القضائي الإسرائيلي لعمليات "الشيطنة" التي بدأتها الحكومة والجيش لهذا التواجد السلمي، الأمر الذي يوفر الأرضية الملائمة والشرعية القانونية لعمليات القتل والإعتداء على هؤلاء النشطاء، بإعتبارهم "أعضاء في مجموعة إرهابية" او مجموعات "تدعم الإرهابيين" بأحسن الأحوال، وهو ما أدى بالماضي ليس لقتل راشيل كوري فحسب، بل لمقتل الناشط البريطاني توم هورندل والمصور البريطاني جيمس ميلر الحائز على جوائز عالمية كثيرة.
ثانياً: كنت حاضراً في قاعة المحكمة أثناء تلاوة القاضي لملخص القرار ولفت نظري غياب أي إعتبار للمعايير الدولية ولمواثيق حقوق الإنسان ومبادئ القانون الدولي عن هذا النص!!. وهذا الغياب ليس وليد صدفة أو قرار شخصي لهذا القاضي فحسب، بل هو نتاج ثقافة سياسية، عسكرية، قانونية تطورت لدى كافة الأجهزة الرسمية في الدولة، مفادها أن القانون الدولي لا يسرى على إسرائيل وأعمالها، وأن هذه القيم الكونية لا تشكل مرجعيات قانونية للجهاز القضائي الإسرائيلي، أو لأعمال الجيش وممارساته في المناطق المحتلة!!
والأمر الآخر الغائب عن القرار كان إنعدام أي توجه إنساني أو أخلاقي نحو العائلة وممثليها الذين حضروا الجلسة، كما كل جلسات المحكمة السابقة، تُظهر (ولو شكلياً) أي شكلٍ من التضامن الإنساني، أو تظهر الأسف على مقتل إبنتهم!!، هكذا وبكل بساطة قالت لهم المحكمة: "إبنتكم كانت عضواً في تنظيم يدعم الإرهاب... إبنتكم جاءت "لمناطق قتالية تجري فيها أعمال عسكرية" وهي تتحمل مسؤولية شخصية عن مقتلها"!!
الأمر الثالث الذي برز هو تأكيد المعمول به في المحاكم الإسرائيلية منذ عدة عقود، وهو غياب المساءلة القانونية للجيش، وتوفير أجواء تضمن استمرار الإفلات من العقاب للعاملين في الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية جراء ما يقومون به من جرائم ومخالفات لحقوق الإنسان في المناطق الفلسطينية المحتلة. ولا يوفر القضاء الشرعية القانونية على هذه الجرائم فحسب، بل وأيضاً على ما يقوم به الجيش للتغطية على أعماله من خلال وإختفاء الحقائق التي تدين أعمالهم تحت حجج واهية، مثل إخفاء كاسيت التسجيل لعملية التشريح، (وهو دليل مهم في القضية)، بحجة قيام المركز الجنائي بتدوير "Recycle" للأشرطة بسبب الأوضاع المالية الصعبة للمركز!!
وبالطبع لا يخلو هذا القرار من مواضيع أخرى تثير الشبهة حول نزاهة القضاء الإسرائيلي، وتشير بشكل لا يقبل الشك للدور الذي يلعبه، ليس بعدم قيامه بواجبه الأخلاقي والقانوني بمراقبة أذرع الدولة المختلفة فحسب، بل بقيامه بدور الشريك المكمل لدور الحكومة والجيش وتوفير التبريرات القانونية لأعمالهم في المناطق المحتلة!!
وأخيراً لا بد من الإشارة الى أنه وبالنظر الى النقاط السابقة، فإن محاولة تجريم التضامن الدولي لم تفلح بمنعه، حيث أخذ أشكالاً محلية ودولية عديدة، إزدادت رغم عمليات الشيطنة والتجريم، وبالرغم من القتل والتهديد المباشر للمتضامنين. إضافة الى أن فشل الجهاز القضائي بالقيام بواجبه، وعلى الرغم من توفيره الغطاء والتبرير القانوني للجرائم والمخالفات، فإنما يقوم به عملياً هو توفير الأرضية الخصبة لمتابعة القضية، (وكافة جرائم الجيش الإسرائيلي) أمام المحاكم الدولية التي لا تتقادم  الجرائم أمامها، ولا يمكن للإنسانية أن تستمر بالتسامح معها أو تجاهلها، كما حدث لمجرمي الحرب في البوسنة.
وأخيراً بالنسبة لعائلة راشيل كوري ونضالها المثابر لمتابعة القضية وكشف الحقائق، فلا يمكن القول إلا أن مقتل راشيل لم يذهب هدراً، بل أكسب الشعب الفلسطيني والإنسانية جمعاء مناضلين حقيقيين عن القيم الإنسانية، وأن نضالهم جعل من راشيل أيقونة ووساماً على صدر كل مناضل ضد الظلم والإحتلال وإنتهاكات حقوق الإنسان حول العالم.

30.8.2012 الناصرة