21‏/10‏/2008

"ما بين حرية التعبير والتحريض على العنصرية"


ترافقت قضية نشر الكريكاتورات بالتحليلات حول حرية التعبير وحق الانسان باحترام معتقداته الدينية، وتفاوتت ردود الفعل بين مؤيد للنشر ومؤيد لردود الفعل عليها، وفي كلا الحالتين وظفت حقوق الانسان للتبرير.
ان ملخص حرية التعبير يكمن بحق الفرد او المجموعة بالتعبير عن آرائها ومواقفها دون قيد، وهذا الحق يعتبر احد المركبات الاساسية للديمقراطية لانه اساسي لكشف الحقائق امام الجمهور واساساً لحماية الديقراطية، وضمان التوازن بين الاستقرار من جهة، والحق بالتغيير من جهة اخرى، اضافة لكونه اداه هامة لتحقيق الذات، وهذا الحق كباقي حقوق الانسان ليس مطلقاً ويتقيد بعدة شروط من ضمنها ما يتعلق "بالامن القومي" او "امن الجمهور"، والاخلاق العامة ومشاعر الجمهور، اضافة لحق الانسان بالخصوصية والحماية من الاهانة والمس بالكرامة.
وتخضع عملية رسم الحدود بين حرية التعبير والقيود المفروضة عليه لعملية موازنة تأخذ بعين الاعتبار كل الاعتبارات السابقة حتى لا يتم انتهاك اي من الحقوق بشكل مطلق او التمتع بها على حساب حقوق اخرى.
وفي الحديث عما حصل منذ نشر الرسومات المسيئة للرسول (صلعم) لا بد من الاشارة الى عدة عوامل هامة:
اولا: تعتبر الكثير من نظريات حقوق الانسان الاديان جزءً من ثقافة الشعوب الاصلية التي لها الاثر الكبير في صياغة حضارة الشعوب وضميرها، الامر الذي يجعلها جزءاً من الكرامة الانسانية (ام الحقوق)، ولهذا اهتزت مشاعر البوذيين- ومعهم العالم ومؤسسات حقوق الانسان العالمية والامم المتحدة عند تحطيم تماثيل بوذا في افغانستان (ليس فقط باعتبارها جزءاً من التراث العالمي).
اذا سألنا المؤمن المتدين عن مشاعره حين تمس مقدساته وتدنس، سنرى مدى الاهانة التي يشعر بها في كرامته الانسانية، وهذا الامر لا ينطبق على المسلم بل على كل مؤمن... اذاً ان ارتباط احترام الرموز الدينية بالكرامة هو امر يخترق الثقافات والمعتقدات ويجمع عليه المؤمنون في العالم، واذا كانت حقوق الانسان قد جاءت لخدمة الانسان فمن الاجدر ان تأخذ بالحسبان موقف هذه الغالبية وتحمي مصالحهم.
ثانياً: الادعاء بحرية التعبير في هذه الحالة جاء على شكل رسومات كريكاتورية مهينة، اي لم يكن هناك رأي حتى يتمكن المسلمون من الرد عليه او نقاشه، وبالتالي لا يمكن طرح القضية من باب الحوار والنقاش الديمقراطي, خاصة وان هذه الرسومات ترافقت مع اشارات واضحة لوصم الاسلام والمسلمين بالارهاب والعنف.
ثالثا: ان نشر الرسومات واعادة نشرها لاحقاً، رغم ردود الفعل العنيفة في العالم شكلت تحدياً- لا مبرر له- واضافة الوقود الى النار الملتهبة خاصة وانها لم تترافق مع مواقف واضحة للمؤسسات الرسمية وخاصة الاحزاب والحكومات ، التي تهربت من دورها وتسامحت مع النشر تحت ذريعة حرية الصحافة!! فهل كانت الحكومات سترد بالمثل لو نشرت هذه الصحف اخباراً مسيئة او مهددة للامن والاستقرار الوطني!! في هذا الشأن يصدق المسلمون في تساؤلهم حول التمييز بين تحريم التعرض للكارثة وجرائم النازية من جهة وتحليل لاهانة الرموز الاسلامية!!
رابعا: برزت خلال هذه الازمة غياب مواقف مؤسسات المجتمع المدني الاوروبية وخاصة مؤسسات حقوق الانسان الاوروبية، أللهّم فيما عدا "الشبكة الاوروبية المتوسطية لحقوق الانسان"، وهي اطار يضم حوالي 80- جمعية عربية واوروبية لحقوق الانسان، وعلى الرغم من كون ردها قد جاء متأخراً وضعيفاً حيث لم يحتوي ادانة واضحة لنشر الرسومات، في حين حمل شجباً للردود العنيفة التي لقيتها هذه الرسومات.
خامساً: ان ردود الفعل العنيفة التي رافقت مظاهرات التنديد بنشر الرسومات تؤكد على ان باب الحوار قد اضحى ضيقاً (ان وجد اصلاً)، وان الحوارات التي جرت بالماضي لم ترقى الى المستوى واكتفت بحديث النخب الدينية والثقافية، ولم تجد طريقها الى قلوب الناس وعقولهم، الامر الذي يثير التساؤلات حول جدواها ويضع الموضوع برمته للفحص قبل الاستمرار بمثل هذه اللقاءات بالمستقبل.
واخيرا: لو أخذنا بحساب الربح والخسارة للانسانية ولحقوق الانسان، لوجدنا اننا خسرنا الكثير خاصة مصداقية شعار حقوق الانسان الذي تم استغلاله في هذه المعركة بشكل سافر، حيث لا اعتقد ان ناشري الرسومات قد ربحوا شيئا من النشر، سوى اثارة الاحقاد والعنف علاوة على تأجيج العنصرية والكراهية تجاه المسلمين والاجانب في اوروبا والعالم، وفي النهاية لا بد من الاشارة الى ان ردود الفعل العنيفة التي شهدتها البلدات الاسلامية اظهرت غياب السلطة والمؤسسات الرسمية، وبعدها عن تمثيل شعوبها كونها لم تستطع القيام بشيء لارضاء شعوبها.

محمد محمود زيدان