23‏/10‏/2008

من أجل ثقافة أكثر إنسانية


مدخل :
لقد اكدت المواثيق والاعلانات الدولية لحقوق الإنسان على ان " حقوق المرأة والطفل الانثى(الطفلة) هي جزء ثابت متكامل لا يتجزأ من حقوق الإنسان العالمية غير القابلة للتصرف " (1) بالإضافة لتأكيدها على أن العنف ضد المرأة ينتهك ويعيق أو يبطل تمتع المرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية وأن كون كافة أشكال العنف القائم على أساس نوع الجنس تعتبر أمورا تتنافى مع كرامة الإنسان وقدره .
كما أكدت هذه المواثيق على مبادئ أساسية متعلقة بعالمية حقوق الإنسان وشموليتها ومبدأ ترابط هذه الحقوق وعدم جواز تجزئتها أو الانتقائية في تنفيذها , وذلك مقابل كافة المحاولات الجارية للانتقاص من هذه الحقوق على قاعدة الخصوصيات بمختلف أنواعها ومحاولة الرجوع إلى الموروث الثقافي والاجتماعي بكافة أنواعه كمبرر للنكوص بهذه الحقوق أو التراجع عنها . وفي سياق معالجتها لقضايا المرأة وحقوقها أكدت قوانين وقيم حقوق الإنسان على مسؤولية الدولة عن تطبيق هذه المبادئ في مستوى تعزيز حقوق المرأة بالإضافة للحماية ووقف الانتهاكات حين حصولها بغض النظر عن هوية مرتكبيها .

العنف ضد المرأة :
يعتبر العنف ضد المرأة أحد أسوأ أشكال انتهاك حقوق المرأة لما يتضمنه من مسٍ بالكرامة البشرية التي هي اقدس مميزات بني البشر , والعنف ضد المرأة يعني " أي عمل من أعمال العنف القائم على نوع الجنس ترتب عليه , أو من المحتمل أن يترتب عليه, أذى بدني أو جنسي أو نفسي أو معاناة للمرأة ... سواء حدث ذلك في الحياه العامة أو الخاصة " (2) . يشمل العنف لذلك أعمال العنف البدني والجنسي والنفسي التي تحدث في الأسرة مثل الضرب, ختان الإناث , ضرب الزوجات وغيرها ... بالإضافة لتلك الاعتداءات التي تحدث داخل المجتمع بوجه عام مثل الاعتداءات الجنسية والاغتصاب والتحرش الجنسي , أو التخويف في مكان العمل وغيرها .
وقد تضمنت التعريفات الواردة في الإعلان الصادر عن المؤتمر الدولي الرابع المعني بالمرأة, أيضا أعمال العنف ضد المرأة في حالات الصراع المسلح أو تلك المتعلقة بالحقوق الإنجابية بما في ذلك الإجهاض القسري أو التعقيم القسري أو وأد البنات وكافة أشكال العنف التي تحصل داخل البيت أو في المجتمع المحلي أو تلك التي يقترفها موظفو الدولة .
والعنف المسلط على المرأة لم يعد شأنها وحدها بل هو قضية من القضايا التي تهم الرجل أيضا والمجتمع بأسره بحيث يجب نقل التعامل معه من كاهل النساء إلى الحيز العام , بحيث يتوجب نقاش الظاهرة علناً وضرورة التخلص منها كأحد ابرز المظاهر الاجتماعية التي تؤثر في تطور المرأة وتمتعها بحقوق الإنسان والحريات الأساسية .
ولقد عملت منظمات حقوق الإنسان وآلياتها الدولية لفترة طويلة دون التطرق لموضوع حقوق المرأة أو للقضايا المتعلقة بتمتع النساء بحقوق الإنسان الأساسية , نتيجة للتفسيرات الضيقة لمفهوم هذه الحقوق , حيث تم التعامل مع الحق بالحياه أو الحق بالحماية من كافة أشكال التعذيب والحق بالأمن الشخصي وغيرها من الحقوق الأساسية على أنها تتعلق فقط بمن يتم انتهاك حقوقهم لأسباب سياسية فقط , أي فقط في تلك الحالات التي يكون فيها مقترف الانتهاك ممثل عن اذرعه السلطة وجهازها (الشرطة , الجيش ... ) وذلك على الرغم من أن بنود المعاهدات الدولية كانت تتحدث عن حق كل إنسان أو كل شخص دونما أن تحدد جنسه وطبيعة الأخطار التي تعيق تمتعه بهذه الحقوق .
ولقد بررت هذه المنظمات موقفها هذا بالظروف السياسية السائدة أو بمحدودبة القدرات البشرية والمهنية لها , وعدم تمكنها من التوسع لتغطية كافة انتهاكات حقوق الإنسان , الأمر الذي يؤكد أن المشكلة الأساسية كانت في المنظمات والمؤسسات نفسها وليس في مفهوم الحق أو اللغة المستعملة في الوثائق والمعاهدات الدولية.
ومع تطور هذه المؤسسات بدأ التوجه نحو تطوير مفهوم الحقوق الانتهاكات , بمعنى أن الحق بالحماية من التعذيب لم يعد حكرا للسجناء السياسيين فقط بل تجاوز نطاقه ليشمل السجناء كافةً بمعزل عن سبب سجنهم أو هوية الشخص الذي يمارس التعذيب ضدهم , كون هذا الحق متعلق بجوهر الإنسان ... كل إنسان , كذلك الأمر فإن مفهوم العنف أو التعذيب ضد النساء اصبح يدرج كانتهاك لحقوق الإنسان بغض النظر عن هوية المجرم سواء كان شرطياً أو جندياً أو زوج المرأة أو أخاها .

والسبب الآخر لتركيز منظمات حقوق الإنسان على الانتهاكات التي تقوم بها أجهزة الدولة فقط هو اعتبار المخالفة التي يقوم بها الشخص العادي ( المواطن ) هي مخالفة أو جناية بينما تعتبر مخالفة الدولة انتهاكاً لحقوق الإنسان , أي انه من الضروري توفر أدلة قاطعة على مسؤولية الدولة حتى يمكن اعتبار " المخالفة " " انتهاكاً " لحقوق الإنسان وبالتالي فلأن مرتكبي العنف البيتي هم أفراد مستقلين , فانه كان " من الطبيعي " عدم تطبيق معايير ومبادئ حقوق الإنسان على فعلتهم , إلا في تلك الحالات التي تثبت فيها مسؤولية الدولة أيضا .
وفي هذا السياق يجب التوضيح بأنه يقع على الدولة واجب حماية كل مواطنيها من الجرائم وبضمنها جرائم العنف بمختلف أشكالها , بغض النظر عن هوية مرتكبيها وعندما تتقاعس الدولة عن أداء دورها هذا , أو حين لا تتخذ الإجراءات اللازمة لتوفير الحماية اللازمة لمنع وقوع الجريمة فإنها بذلك تحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية , بل وأنها من خلال امتناعها هذا تساهم في تشجيع الجريمة .
فمثلا لو تحدثنا عن الحق بالحياة فانه مقابل هذا الحق , هناك واجب على الدولة أن توفر الحماية للمواطنين أمام أي خطر قد يؤدي لانتهاك هذا الحق .. ومسؤولية الدولة هنا لا تقتصر على منع أفراد الشرطة أو الجيش من الاعتداء على حياه المواطن , بل تتجاوز ذلك أيضا لمسؤولياتها عن حماية المواطن من أي اعتداء يمارسه أي مواطن ضد مواطن آخر . ويجب التعامل في هذا السياق مع مسؤولية الدولة على انه أمر ملزم فكما يجب على الدولة حماية حقوق العمال في القطاع العام من التمييز فانه يتوجب عليها حماية حقوقهم أيضا من أي استغلال يواجهونه في القطاع الخاص .
ومسؤولية الدولة ليس فقط في توفير الحماية ووقف الانتهاكات حين حصولها بل أيضا يتوجب عليها اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع حدوث الانتهاك قبل حصوله , وتقصير الدولة في ذلك يضعها أمام المسائلة على أساس المسؤولية القانونية الناجمة عن الإهمال .

الأنماط الاجتماعية والثقافية :
تلتزم الدول " بتغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على الإعتقاد بكون أي من الجنسين أدنى أو أعلى من الآخر أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة " (3) وذلك إضافة لمسؤولياتها عن ملائمة قوانينها وسياساتها المحلية مع التزاماتها وفق القانون الدولي لحماية وتعزيز حقوق الإنسان . بكلمات أخرى فانه على الدولة واجب إزالة التناقض أو الاختلاف القائم بين قوانين حقوق الإنسان العالمية على من جهة , والقوانين والسياسات والأعراف المتبعة داخل أراضى هذه الدولة من جهة أخرى , وضرورة العمل للوصول لمرحلة المطابقة فيما بينها .
وتتخذ قضية ملائمة الأعراف والثقافات المحلية لمبادئ حقوق الإنسان والقيم الإنسانية اهمية قصوى لما في ذلك من تأثير على تحديد الأدوار للرجل والمرأة وطبيعة العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع وامكانية الوصول والمشاركة في التحكم بالموارد , وبالتالي بمدى تمتع الرجل والمرأة بحقوقهم الانسانية وحرياتهم الاساسية .
فالعنف ضد المرأة هو مظهر من مظاهر علاقات القوى غير المتكافئة بين الرجل والمرأة بالاضافة الى ارتكازه على مفاهيم وتقاليد وقيم تديم تدني مكانة المرأة في الاسرة ومكان العمل والمجتمع المحلي والمجتمع ككل ومسؤولية الدولة في هذا المجال ليس وضع القوانين التي تمنع العنف وتوفر الحماية للضحايا فقط , بل ايضا الاهتمام بوضع البرامج التعليمية والتثقيفية الكفيلة بتغيير القيم السائدة حول دونية المرأة ونشر القيم المسنودة بقيم حقوق الانسان مجتمعيا.

من اجل ثقافة انسانية :
يعتبر التغيير الاجتماعي احد المهام التي يستحيل تطبيقها بفترة زمنية قصيرة , بالاضافة للاشكاليات التي تعيق تنفيذ هذا التغيير والناجمة عن التركيز على القضايا المحلية والخصوصيات بأنواعها كأمور مقدسة مجمع عليها ولا يمكن التنازل عنها بسهولة , ويأخذ هذا الادعاء حيزاً كبيرا في المواقف الداعية الى ترسيخ دونية المرأة ودوام الانتهاك لحقوقها الانسانية الاساسية . وتُبرز الادعاءات المنادية بالخصوصية الثقافية , الدينية او الوطنية ان القوانين المدنية لوحدها ليست قادرة على تغيير الواقع وانهاء الانتهاكات لحقوق المرأة .. خاصة اذا ما اصطدمت بعقلية محافظة ترفض الانفتاح والتجديد , او في ظل ظروف تنعدم فيها لغة الحوار وتسودها لغة العنف في العلاقات الاجتماعية وخاصة العائلية منها , والتي تتستر باطلا باسم الهوية والخصوصية الثقافية لتستمر بانتهاك حقوق الانسان .
دون الخوض بتفاصيل الخصوصيات, جذورها وانواعها والتطرق لقواعدها الفكرية لا بد من التأكيد على ان قيم حقوق الانسان التي ننادي بها والتي تستند الى قيم العدل , المساواه والحياه الحرة الكريمة هي نتاج للثقافة الانسانية جميعا , ولم تكن يوماً غريبة عن قيمنا وثقافتنا , وان التفسيرات السلفية التي تجتهد في ابراز التناقض بين هذه القيم وحضارتنا ليست الا محاولة لاستغلال المشاعر والزج بالدين والثقافة في علاقات صراعية مع حقوق الانسان بهدف الانتقاص من هذه الحقوق بدعوى الخصوصية.

ان ما تطرحه حركة حقوق الانسان ومؤسسات المجتمع المدني هو بلورة ثقافة بديلة اساسها انسانية النساء وتعمل على الغاء التمييز والاضطهاد الذي تكرسه مجموع القيم الثقافية السائدة التي تهدف الى اقصاء النساء عن عملية الابداع الانساني , او في احسن الاحوال حصرهن في نطاق الدور البيولوجي المسموح به بما لا يتنافى مع المتخيل الاجتماعي الخاص الذي يبدل المراجع الانسانية الكونية.
وفي هذا السياق فاننا ندعو لمفهوم حقيقي للشرف .. كقيمة اجتماعية تتجاوز كثيرا الجنس والعفة المصطنعة , الى مفاهيم الصدق والامانة والعمل المنتج والمشاركة في ادارة شؤون المجتمع والمساهمة الفاعلة في مسيرة الرقي والتنمية والبناء , هذا هو المفهوم الذي تدعو اليه ثقافتنا التي نريدها , ثقافة المساواه ضد ثقافة التمييز , وثقافة مستقبلية ضد ثقافة التحنيط , ثقافة تشرك المجتمع كله ضد ثقافة الاقصاء والابعاد , ثقافة تحقيق الذات ضد ثقافة ذوبان الفرد في المجموعة , ثقافة التسامح والتعددية ضد ثقافة الاحادية في التفكير والقرار , وثقافة الحرية ضد ثقافة الكبت وتكبيل الروح والجسد والفكر .
هذه هي الثقافة التي نريدها .. ثقافة تحرر الانسان من سجن الدور البيولوجي .. ثقافة تتعامل مع المرأة ككائن سيكولوجي واجتماعي لديه نفس قدرات الرجل على التفكير والتحليل والابتكار والابداع والعمل والقيادة والادارة واصدار الحكام وادارة شؤون الجماعة التي تعيش فيها .
ثقافة تستبدل الثقافة السائدة التي تعمق شرعية الوصاية على المرأة وتجيز للاخ قتل اخته والإعتداء على حرياتها وحقوقها الانسانية الاساسية واستبدالها , بثقافة تعتمد , حقوق الانسان كحد ادنى لا يجوز الانتقاص منه , وتكون دافعا للتطور والتغيير النوعي في السلوكيات والعلاقات بين مختلف افراد المجتمع وخاصة بين النساء والرجال .
واخيرا فان احداث هذا التغيير في السلوكيات الاجتماعية يقتضي استنهاض المثقف الغائب او المغيب الذي يجب ان يتميز بدوره الطلائعي الرافض لتكبيل الفكر والتقيد بالممنوعات " المفهومة ضمنا " , ويتجاوزها ليتحدى المجتمع ويطرح الاشكاليات ويعمق النقاش فيها ويطرح البدائل المؤسسة على الانخراط في العالمي الانساني واعتبار الخصوصية الثقافية عنصرا منها بما تحمله من قيم حضارية انسانية ورفض ما تحمله من مفاهيم رجعية غالبا ما تستخدم ضد حقوق النساء .
محمد محمود زيدان

1. إعلان فيينا – الصادر من المؤتمر العالمي لحقوق الانسان – 1993 .
2. إعلان بيجين - الصادر عن المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة 1995 .
3. المادة الخامسة – اتفاقية القضاء على كافة اشكال التمييز ضد المرأة .